يبقى الفنان اعمر الزاهي أو"عميمر"، كما يحلو لمقربيه مناداته، العبقري الذي لم يكن غيابه عن الأضواء مانعا من أن يكون محبوب الجماهير، من المفارقات التي لا يمكن إلا أن يكون بطلها مطرب بحجم الزاهي، أن عزلته وابتعاده عن الإعلام كان فرصته للاشتغال على نفسه، فجعل من الشعبي سببا لوجوده، وهو من اختزل وقار كل المشايخ الذين عرفهم وأخذ عنهم، وليبقى لغزا جميلا في عالم الموسيقى .
لقد اختار الشيخ اعمر الزاهي الهروب بفنه بعيدا عن كل الحسابات التي ميزها في وقت ما الخلاف بين جيلي الأمس واليوم في فن الشعبي، كان حول عدم رضا الشيوخ واتهام الشباب لهم بالأنانية.
لذا فضل الزاهي بحكمته المعهودة، أن يقف بعيدا في عزلته مكتفيا بدور المتفرج، دون أن ينسى دوره كفنان، فكان يصر إلى وقت قريب قبل أن يداهمه الوهن والمرض، على تحسين أدائه وتقديم فنه بشكل راق كما عهده جمهوره العريض، وهو ما شكل استمراريته رغم العزلة والغياب.
وبهذا المنطق الذي ميز مسيرته الفنية، يظل الشيخ اعمر الزاهي واحدا من أهم أسماء الشعبي حتى في عزلته الاختيارية التي جعل منها فرصة للاشتغال على تطوير نفسه وترك بصمته بهدوء المحترفين وبوقار الشيوخ.
اختار الأعراس لتكون مصدر رزق غيره
عُرف عن الفنان عمر الزاهي عدم المشاركة في أي مهرجان أو حفل فني، والاكتفاء بإحياء حفلات الأعراس، ليكون قريبا من جمهوره ووسطهم بدون تحسينات صوتية، لم يكن ليحتاجها صوته القوي يوما.
ومن المفارقات التي صنعها شيخنا، أن الخصومة التي نشأت بينه وبين المال الذي عبّر في أكثر مناسبة عن زهده فيه، أن مثل هذه الحفلات الفنية التي كان يحييها كانت وسيلة رزق للكثيرين ممن كانوا يتعمّدون الحضور وتسجيل ما يقدمه، وبالتالي بيعها في أقراص مضغوطة.
ورغم علمه بالأمر، إلا أنه لم يعترض يوما ولم يفكر في المطالبة بحقوقه المادية، حتى أن الباحث ومحافظ مهرجان الشعبي عبد القادر بن دعماش، عاد بنا في حديثه إلينا إلى موقف عايشه شخصيا، حيث قال: "جاء أحد هؤلاء إلى الشيخ اعمر الزاهي ومنحه قيمة من المال من عائدات الحفلات التي سجلها، فما كان من هذا الأخير إلا الامتناع عن قبولها، حيث أكد له أن هذا المال من حقه وحده"، وهنا تكمن المفارقة.
وعليه فإن مختلف الأعمال الحديثة المتداولة عن الشيخ الزاهي مسجلة عبر الأعراس والحفلات العائلية التي يحييها من حين لآخر، إلا أنه ما زال يرفض الاندراج ضمن موجة "سي.دي" والألبومات، مقتنعا في أحاديثه، بأن موسيقى الشعبي موهبة ومتعة.
عبد القادر بن دعماش: الفنان الذي رفض الأضواء
يقول محافظ مهرجان الشعبي، عبد القادر بن دعماش، إن شخصية الشيخ اعمر الزاهي متفردة رغم بساطتها، وهو من يصر على أنه نجح في أن يعطي لمسيرته الفنية تميزا كبيرا، فرض من خلالها شخصيته في الأداء، فكان عبقريا في ذلك.
ويضيف بن دعماش أن الزاهي لديه قناعات ربما لا يعترف بها غيره ممن يسعون وراء الشهرة، فهو يرفض المكافآت والظهور أو المشاركة في أي مهرجان فني ويصر على عزلته الاختيارية.
ويقول كذلك إنه يعيش بمفرده ويمارس الصوفية في حياته كلها، موضحا أن الفرص الكثيرة التي أتاحت له الاقتراب منه، مكنته من التعرف على شخصية تختصر في بساطتها عبقرية الفنان.
ياسين أوعابد: لم يمنحوا له فرصة الظهور
أكد الفنان والملحن ياسين أوعابد أن "عميمر"، كما هو معروف في الوسط الشعبي، قد حُرم فرصة العمل بأريحية، بالنظر إلى بعض المحيطين به ممن حاولوا التقليل من شأنه وحتى نسج الإشاعات المجانية من حين إلى آخر حول وفاته.
أما مؤسستا الإذاعة والتلفزيون فقد كان لهما نصيب في قرار الاعتزال، حيث كانت البداية مع مؤسسة التلفزيون الجزائري، أين واجه موقفا اضطر فيه إلى التعريف بنفسه إلى عون الأمن هناك. أما مسؤولو الإذاعة فقد اضطروه إلى تسجيل حضوره اليومي، وهو ما كان يرفضه، ففضل بذلك الابتعاد النهائي عن عالم الإعلام.
ويوضح أوعابد أنه من الصعب جدا الحديث عن قامة بحجم فنان الشعبي اعمر الزاهي، مؤكدا أنه ظاهرة فريدة من نوعها، اختار أن يهب حياته للفن وإحياء حفلات الأعراس دون السعي وراء الظهور.
عبد القادر شاعو: جمعتنا الأعراس وفرقتنا القناعات
يتذكر الفنان عبد القادر شاعو أن بدايته الفنية كانت مع الشيخ اعمر الزاهي والراحل محبوب باتي، حيث أوضح أن هذا الثلاثي اختار أن تكون بدايته مع الأعراس، قبل أن تفرق بهم سبل الحياة والموت، فإن كان محبوب باتي قد رحل عن هذه الدنيا، فقد اختار هو العمل في مجال الشعبي دائما تحت الأضواء، إلا أن الزاهي قرر الاستمرار في إحياء حفلات أعراس لأناس من مقربيه وحتى من البسطاء، وهذه القناعة التي يقول الفنان شاعو إنها بقيت معه طوال مسيرته الفنية.
وأضاف شاعو أنه حاول أكثر من مرة إقناعه بإحياء حفلات في الوطن وخارجه بالنظر إلى الطلب الكبير عليه، إلا أنه كان يرفض ذلك وبإصرار لأسباب يجهلها الجميع.
إلا أن الفنان شاعو يعود ليؤكد أن الفنان الزاهي رغم ابتعاده عن الأضواء، إلا أنه يبقى المطرب المحبوب بين الجميع، وأكثر من ذلك، يقول فناننا إن اسم الزاهي كفيل بضمان حضور الجمهور.
أمين "رفيق عزلته": تأخرتم كثيرا لتكتشفوه
أمين الشاب الذي يشارك الفنان اعمر الزاهي يومياته كظله، يقول إنها لا تختلف في تفاصيلها فيما بينها، خاصة وأنه يقضي معظمها معه.
ويشير أمين إلى أن المطرب اعمر الزاهي يزوره يوميا ولأكثر من مرة، فيقوم صباحا بمطالعة الصحف ثم يتناقشان حول مختلف قضايا الدين والدنيا، فيتحدثان حول مباريات كرة القدم، في هموم الأصدقاء وأخبارهم وفي أمور الدين. ليغادر إلى بيته ويعود بعد صلاة العصر ويجد صديقه في انتظاره، ليقوما أحيانا بجولة في الجوار، وبعد الإفطار يعود ليحضر نفسه لإحياء سهراته الفنية كعادته مع الأصدقاء والمقربين. وإن كانت هذه يومياته في رمضان فإنه يؤكد أنها لا تختلف عنها في الأيام العادية.
أمين يقول كذلك إن اعمر الزاهي يفضل الابتعاد عن الحديث أو التعامل مع زملاء المهنة، وهو نفس الحال مع رجال الإعلام الذين يقول إنه كان محقا في رفض السماح لهم بالاقتراب منه بداعي أنهم أهملوه في بداياته، والآن لا يمكن أن يعوّضوه ما فاته في آخر العمر.
ويختم أمين بالقول إن الزاهي فنان فضل الابتعاد عن الأضواء وهو يعيش حياته بالبساطة التي كان يريدها دوما وهو غير نادم على ذلك.
اعمر الزاهي.. عملاق برتبة فنان
هو المطرب الشعبي الغني عن التعريف الذي غنى الكثير، واسمه الحقيقي عمار آيت الزاي، المدعو "الشيخ اعمر الزاهي" وهو من مواليد 1 جانفي 1941 بعين الحمّام بولاية تيزي وزو. دخل الميدان الغنائي في 1963 بعد مقابلته مع الشيخ لحلو ومحمد الإبراهيمي المعروف كذلك باسم الشيخ القبايلي. اللذين قاما بتشجيعه وإرسال القصائد القديمة له وإظهار الموازين التي تغنى بها النصوص. استمد كل أغانيه من الفن المغربي وكتاب الشعر الملحون مثل ابن مسايب، ابن سهلة وابن تريكي، وكذلك الكتاب المعاصرين من أمثال الشيخ الباجي.
أول تسجيل للزاهي كان سنة 1968
وبعد أن أصبح أحد ألمع فناني الشعبي في السبعينات، اختفى الزاهي تقريبا عن الساحة الغنائية بعد 1980، فكان يحضر الحفلات العائلية فقط، ولم يكن للزاهي أي ظهور منذ عام 2000 بسبب مشاكل صحية وانسحب بشكل تام من الحقل الإعلامي، تاركا فراغا وعلامة استفهام عملاقة حول سر هذا الغياب.
و يعتبر الزاهي المغني الأكثر شعبية وموهبة في عصره، وهو الرجل الذي جعل من موسيقى الشعبي سببا لوجوده. ورغم أنه يرفض الظهور أمام الجماهير العريضة، إلا أنه يجد متعة كبيرة في الاحتفالات العائلية الخاصة.
وقد سجل الزاهي أسطوانته الوحيدة في 1982، مجبرا المعجبين على الاتجاه إلى التسجيلات الخاصة من الاحتفالات العائلية في السبعينات أو البحث عن تسجيلاته القديمة.
ومنذ وفاة الحاج محمد العنقاء المعروف بـ"الكاردينال"، ينظر إلى الزاهي على أنه خلفه في طريق كبار موسيقى الشعبي، بالرغم من هروبه عن أنظار وسائل الإعلام والمنافسة القوية لتلامذة العنقاء.
///
الزاهي الذي لم أعرفه
اختار أقرب رصيف إلى بيته ليجعل منه قبة يتنسك بها، وجعل من حي "الرونفالي" بالعاصمة محجا لكل فضولي لا يصدق أن اعمر يجلس فوق صندوق عادي محاذٍ لمحل بيع المواد الغذائية.. ما إن تمر وترفع يدك للتحية حتى يرد اعمر بالمثل، وفي الكثير من الأحيان بالأحسن منها، لكون بساطته تسبقه وعفويته طريقة وحيدة يعتمدها في تعامله مع الغير. بساطة المكان لم تمنع الفنانين، قدامى ومعاصرين، من زيارته للسؤال عنه، لمن سبق وأن التقى اعمر، والتعرف عليه لمن لم يحظ بملاقاته من قبل. منح الفرصة للكثيرين للبروز وغنى معهم، بيتا ببيت، في عدة أعراس ليساعدهم على شق طريقهم في عالم الفن.
حياته الخاصة منطقة حمراء لا يجوز لأحد الاقتراب منها، وهو ما جعل أساطير وحكايات بعضها يقبلها المنطق والبعض الآخر مجرد خيال لا أكثر تحيط بيومياته. أنصار المولودية والاتحاد، الفريقان الأكثر شهرة في العاصمة، ولكون اعمر يقطن في حي فاصل بين إقامة أنصار الناديين، يدعي ويصر كل واحد منهم أن الشيخ يناصر فريقه دون الآخر، وإذا كان أحد أقطاب الأغنية الشعبية، المرحوم الهاشمي ڤروابي، صرح مرارا وتكرارا أمام الملإ بأنه يهوى ويعشق اللونين الأحمر والأسود، وغنى للفريق في أكثر من مناسبة، إلا أن اعمر فضل أن يترك ميل قلبه إلى أحد الفريقين سرا بينه وبين نفسه. كما أدى تكتم اعمر إلى تداول تسجيلات نادرة للشيخ وهو يتحدث إلى مقربين منه، حيث تعتبر شواهد نادرة بصوت اعمر وهو يتحدث دون أن يغني.
تواضعه الشديد ولّد حكايات يقصها عنه من يعشقونه إلى درجة التعصب، فيحكى عنه مساعدته للفقراء وإقامة أعراس بالمجان لهم، وهناك طفل يحكي أن اعمر غنى له في عرس اختتانه بالمجان، وتكفل بكامل نفقات العرس الذي يحكى عنه إلى اليوم بأنه مثل إحدى أفضل اللحظات التي غنى فيها الزاهي.
"لو كان اعمر يحب المادة لشيّد قصورا".. هذا ما ظل يردده مقربون منه، فطلبات إقامة الأعراس لا تنقطع عن الشيخ، وله أن يختار المقابل المادي الذي يريده، والرد لن يكون إلا إيجابيا، لكنه بقي وفيا للحي الذي عرف به ولحديقة "مارينڤو" التي يقابل في جلسته بابها.
يحكي المقربون من الشيخ عن احترامه اللامتناهي لباقي شيوخ الشعبي، فحينما يريد شخص أن يقيم الزاهي عرسا له، يسأله عن حيه، وكثيرا ما يرفض بلباقة مثلا إقامة عرس في حي "لاڤلاسيار"، لكون المرحوم عبد الله ڤطاف يسكن به وبالتالي فالأولوية لڤطاف.
"عليك الهنا والضمان"، "أنا عندي قلب"، "زنوبة"، "يا قاضي ناس الغرام".. وغيرها، عناوين لقصائد أداها اعمر في فترة من الفترات، مكن بها الأغنية الشعبية من العودة إلى الساحة بعدما دخلت مرحلة سبات، كاد يكون عميقا، لولا أن اعمر وعددا آخر من الفنانين بعثوها من جديد.
احترام الشيخ وتواضعه جعل الجميع يحترمه، فهو كما يقال بالعامية "الريح ما يقيسوش"، ويكفي أن يشير إلى أنه يريد شيئا ما حتى يكون حاضرا بين يديه، ويتسابق محبوه لإرضائه بأي شيء سمعوا أن الشيخ يريده.
قف.. الشيخ لا يتحدث للصحافة!
كنا نود أن نطرح أسئلة عديدة على الشيخ ليكتشف عن طريقها محبوه ولو جزءا يسيرا من حياة الزاهي، أسئلة كثيرة وكثيرة جدا ستبقى عالقة إلى حين، لأن الشيخ يرحب بك مهما كانت صفتك، يحدثك مهما كانت مكانتك الاجتماعية، إلا صفة واحدة يطلب منك أن تتنازل عنها لما تقابله، وهي صفة الصحفي، فالأضواء عدوه الأول والأخير، ورغم وساطات من أصحابه وأناس "يحشم منهم"، إلا أن رفض الشيخ اللبق أول وآخر ما يقابل به كل من ينتمي للصحافة